برنامج أئمة الهدى - الحلقة الخامسة: العلاقة بين الكفر والفسق
تاريخ الحلقة: 23-5-2012
المقدمة
المقدم:ِ
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلاة و السلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين، المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. السلام عليكم مشاهدين الأكارم ورحمة الله وبركاته.
بدايتنا في كل حلقة مع ما قاله الله الكريم في كتابه الحكيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.
تساؤلات نطرحها في مسيرة البحث عن الحقيقة الناصعة وصولًا إلى الهداية الربانية:
- من هم هؤلاء الذين قرن الله طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله؟
- هل أنهم كل من وصل إلى السلطة أو ورث سلطة؟
- من ارتكب الجرائم وسفك الدم لينال سلطة؟
- أم أنهم أعدلُ الخلق، وأفضلُ الخلق، وأكملُ الخلق، وأعرفُ الخلق، وأعلمُ الخلق، صفوةُ الخلق بعد خير الخلق، بعد النبي صلى الله عليه وآله؟
- وأنهم أئمة اختارهم الله تعالى؟
ننتقل وإياكم أعزاء المشاهدين إلى محور من محاور هذا البحث المرتبط بأسس الهداية الإلهية لبني البشر عبر رسله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
وأحييكم أطيب تحية في لقائنا المتجدد مع برنامج أئمة الهدى. محور حديثنا في هذه الحلقة حول مدلول الآية الثانية والثلاثين من سورة آل عمران، من أن مخالفة الله ورسوله تؤدي إلى الكفر. فأي كفر هو هذا؟ وهل يجتمع الفسق مع الكفر؟ وما الفرق بين الكفر والفسق؟
ضيفنا الدائم في هذا البرنامج الباحث الإسلامي والأستاذ في الحوزة العلمية سماحة الشيخ مصطفى محمد مصري العاملي، والذي نرحب به في بداية هذا اللقاء.
المقدم: أهلاً ومرحباً بكم سماحة الشيخ ضيفاً عزيزاً على قناتكم قناة كربلاء الفضائية.
الشيخ: أهلاً وسهلاً بكم، حفظكم الله وسدد خطاكم.
المقدم: حياكم الله سماحة الشيخ وأهلاً ومرحباً بكم كذلك. سماحة الشيخ، في الحلقة السابقة بيّنتم حقيقة الطاعة لله ورسوله، وكيف تتحقق من خلالها محبة الله لعباده، واتضح من خلال الحديث أن ابتعاد العبد عن أسس الطاعة يؤدي إلى اتصافه بالكفر. السؤال الأول الذي نطرحه في هذه الحلقة: ما الربط بين عدم محبة الله والكفر؟ تفضل.
الربط بين عدم محبة الله والكفر
الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير رسله وأعز أنبيائه، سيدنا ونبينا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، ونحن بجوار واحد من هؤلاء الذين طهّرهم الله تطهيرًا. كما نحيّي المشاهدين، نحيّيك أخي الكريم.
المقدم: حياكم الله سماحة الشيخ.
الشيخ:
ونقول في سياق ما تفضّلتم به حول هذه المسألة، وكما تعلمون ومن تابعنا في الحلقات الماضية يدرك تمامًا أن ما اتضح من خلال ما تحدّثنا عنه حول حقيقة معنى محبة الله لعباده... نعم، الله تعالى يحب عباده، ولكن هذه المحبة تعتمد على أسس وترتكز على أسس باعتبار أن هذا الحب لا بد من أن تكون له ثمرة. ومنطلق هذا الحب من الله تعالى هو لطف وتفضُّل وتمنُّن وتَحَنُّن وإحسان على العبد. ولكن هذا التفضّل والإحسان من الله تعالى مرتكز على أسس، وهذه الأسس التي أرادها الله تعالى من أجل أن يكون هذا الحب مثمرًا من جانب العبد ليصل بهذا الحب إلى النتيجة المرجوة.
طبعًا، الله تعالى يقول: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾.
هنا أود أن أقول قد يقول البعض: لذلك خلقهم يعني للاختلاف. لا، لا يمكن حاشا لله أن يكون الهدف من الخلقة هو هذا. لقد قال في آيات أخرى بيّن الهدف من الخلقة، وهنا عندما يقول: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، أي خلقهم ليرحمهم: ﴿إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾. ولو شاء ربك، بمعنى أن الله تعالى لو أراد أن يجعل بني البشر مخلوقات تفعل ما تُؤمر ولا تملك حرية الاختيار، كما هو حال أصناف من الملائكة. ولكن منحهم القدرة على الاختيار، وهذه القدرة على الاختيار هي في الواقع خاضعة لرغبتهم وإرادتهم. هو يريد منهم شيئًا، ولكن سلوكهم يؤدي بهم إلى أن يذهبوا باتجاه آخر. الهدف الذي يريده الله تعالى هو أن يرحمهم، ولذلك خلقهم.
فمن هذا نفهم خلفية المحبة من الله تعالى للإنسان. وبالتالي، ما يريده الله تعالى من هذه الرحمة التي أرادها من خلقه وأراد لهم أن يسعدوا بها، هذه الرحمة الإلهية في الواقع ليست خاصة بشريحة معينة من الناس، يعني الله تعالى بلحاظ الإرادة -ليس الإرادة التكوينية، وهذا مر معنا سؤال عن الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية- بلحاظ ما يريده وما يرغب به من نسبة للعباد، يريد لهم أن يسعدوا في حياتهم. وما يعانونه من أمور هو ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾.
إذن الجانب الأساسي في الموضوع أن الرحمة الإلهية التي يرغب الله تعالى بأن يصل إليها الإنسان هي ليست خاصة بجماعة معينة، ولكن الأسس التي نشير إليها جعلها الله وفق رغبات البشر.
المقدم: هنا سماحة الشيخ، إذاً الرحمة أيضًا ليس فقط للإنسان المؤمن، يعني الرحمة الإلهية نتحدث عن البشر، سواء كان المؤمن أو الكافر. وحتى الكافر تشمله الرحمة.
الشيخ:
يعني الله تعالى عندما خلق الإنسان لم يكن هدفه أن يخلقه ليعذبه، بل إن الإنسان بنفسه اختار الطريق التي توصله إلى العذاب. الله تعالى خلقه ليسعده، خلقه ليرحمه، ولكن جعل الوصول إلى هذه الرحمة منوطًا بسلوكية هذا الإنسان واختياره.
مثلاً، يقول في آية كريمة تدل على هذا المعنى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾. هو يريد لك الخير، ولكن هذا الخير منوط بإرادتك ورغبتك. لذا قال مثلاً في سورة الدهر: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾.
إذًا المسألة ترتبط بأن هذا الإنسان الذي يقطع صلة الرحمة بينه وبين الله... الله يريد أن يرحمه، يريد أن يصل به إلى السعادة، وقال في آية أخرى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
في هذه الحالة، من يتولى -وهو موضوع بحثنا في الآية 32 من سورة آل عمران- يعني من يشيح بوجهه. يقول له الله تعالى: هذه الطريق هي التي توصلك إلى النعيم، هي التي توصلك إلى الهداية. فهذا الإنسان بعد أن تصل إليه المعرفة، يصل إلى هذه الأمور، وإذ به يشيح بوجهه ويلتفت ويبتعد، يتولى عن الطاعة بدل أن يسير بهذا الاتجاه، يتولى ويسير بطريق آخر. وهذا يؤدي إلى التمرد الذي يوصل إلى الكفر.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾.
في هذه الحالة، هنا قد يُطرح سؤال: الكفر أي نوع من الكفر هو هذا الذي ينطبق على خطاب للمؤمنين؟ لأننا ذكرنا في حلقات سابقة أن الآيات القرآنية التي ذكرناها واستعرضناها وورد فيها الأمر الإلهي: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾، هي خطاب للمؤمنين. ومورد هذه الآية: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾. فمسألة عدم محبة الله للكافرين متفرع عن مسألة عدم الإطاعة، التولي عن الإطاعة.
المقدم: يعني باعتبار هنا الخطاب للمؤمنين: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ﴾، بداية الآية الثانية والثلاثين من سورة آل عمران: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾، فإن تفرّع على عدم طاعة الله أنه الكفر، صحيح؟
الشيخ:
بالضبط. يعني عدم المحبة... الإنسان الذي يقطع صلته بالله، يخالف الأسس التي وضعها الله تعالى لكي ينال هذا الإنسان درجة محبة الله. ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾، يعني ابتعدوا عن الطرق الموصلة إلى هذه النتيجة، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾. إذن السؤال هنا: أي نوع من الكفر يعني هو هذا معنى الخطاب للمؤمنين؟
المقدم: أحسنتم، إذن السؤال هنا أي نوع من الكفر؟
الشيخ:
نعم، هنا هذا سؤال جدًا لطيف ومهم، والبعض في مورد التطبيق يقع في كثير من الإشكاليات حول مسألة عنوان الكفر: متى ينطبق الكفر؟ أين ينطبق الكفر؟ هل هذه من مصاديق الكفر؟
في الواقع، نريد أن نقول في سياق هذا التساؤل أن الكفر هو كفران. لدينا نموذجان من نماذج الكفر:
- كفر جحود، ويُسمى أيضًا كفر الإلحاد.
- كفر تمرد، ويُسمى أيضًا كفر المعصية.
كيف ذلك؟ كيف نميز بين هذا النوع من الكفر والنوع الآخر من الكفر؟
مثلاً، نجد في قوله تعالى آية قرآنية تقول: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ (الجاثية: 24). هذا الكفر هو كفر جحود، يعني ينكرون وجود الله، ينكرون المعاد يوم القيامة، ينكرون الحساب، ينكرون كل شيء. وهو ما نُعبِّر عنه بالفكر المادي الذي يعطي تفسيرًا للوجود والبشر وللحياة مجردًا عن التعاليم والقيم الإلهية في هذه الحياة. فهذا نمط من أنماط الكفر، كفر الجحود.
الفاصل الأول: سؤال من النجف عن آية المباهلة والتطهير
المقدم: نجد مثلاً... إذا قبل أن ننتقل إلى النوع الثاني نذهب إلى فاصل إن شاء الله ونعود لإكمال هذا البحث إن شاء الله. معكم مشاهدين الأعزاء، نذهب إلى فاصل ونعود إليكم. فابقوا معنا.
المقدم: نرحب بكم مرة أخرى، ونرحب كذلك بسماحة الشيخ. حياكم الله سماحة الشيخ. أهلاً ومرحباً بكم.
الشيخ: أهلاً وسهلاً.
المقدم: سماحة الشيخ، كان الحديث قبل الفاصل حول أنواع الكفر، وتفضلتم كفر جحود وكفر تمرد وكفر إلحاد وكفر معصية. هذان قسمان من الكفر، ولكن قبل أن نكمل هذا الحديث وهذا البحث، في حلقة سابقة كان سؤال من الأخ السيد مهلي من النجف يسأل. نطرح هذا السؤال تجيبونه ونكمل.
الشيخ:
نعم، نحن وعدنا في الحلقات السابقة أن الأسئلة التي جاءت في البرامج سنخصص لها وقتًا في الحلقات اللاحقة. لذا، نعتذر في هذه الحلقة عن استقبال الاتصالات لنتحدث عن بعض الأسئلة التي وردت في هذا السياق.
المقدم: لا بأس. إذن السيد مهلي من النجف طرح ما ذكره الزمخشري -على ما تذكر- نقلًا عن عائشة عن آية التطهير، وما ذكره أيضًا بالنسبة لآية المباهلة، في هذا الجو.
الشيخ:
نعم، صحيح ما ذكره الأخ السائل بالموضوع. يريد الإشارة إلى بعض التفاصيل ما ذكره الزمخشري، والمعروف أن الزمخشري من علماء القرن السادس للهجرة، وله كتاب "الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل" (من الكتب التي لها وزنها واعتبارها عند المسلمين). الزمخشري -الذي هو مورد سؤال وكلام السيد مهلي- ذكر في سياق الحديث عن آية المباهلة: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾.
هذه الآية معروف أنها نزلت في موضوع المباهلة الذي حصل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصارى نجران. الزمخشري ينقل في كلامه حول هذه الآية -وكما ينقل جميع المفسرين- أنه لما دعاهم للمباهلة، النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج ومعه من أظمتهم الآية: ﴿نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾. كان معه الحسن والحسين (ونحن الآن بجوار الحسين عليه السلام)، فاطمة نعم، علي عليه السلام. الذين خرج بهم النبي لمباهلة نصارى نجران هم هؤلاء فقط، وهذا عليه أجمع جميع المسلمين، وهو ما ينقله الزمخشري في محور حديثنا.
فعندما خرجوا، التفت النصارى إلى العاقب -كبيرهم كان يسمى بالعاقب ويقال له عبد المسيح- قالوا: ما ترى؟ سألهم: "مع من خرج محمد؟ إن كان قد خرج مع أصحابه فباهِلوا". يعني إن كان يريد أن يدعو الله ويريد من أصحابه أن يؤمنوا على دعائه فباهلوا. معنى ذلك أنه مدّعٍ للنبوة وليس بصادق. قالوا له: "لا، لم يخرج مع أصحابه، خرج ومعه فلان وفلان". فبيَّن لهم بعد أن بيّنوا له ذلك، قال لهم لأنه بيّن لهم القاعدة قبل ذلك: "إن خرج محمد بأصحابه فباهلوا، ليس برسول. وإن خرج بغير ذلك، بأهل بيته، فمعنى ذلك أنه رسول، وإياكم أن تُباهلوا".
المقدم: يعني هنا سماحة الشيخ، قد بعض المشاهدين قد يطرح سؤال مثلاً يقول: لماذا يقول العاقب: إذا خرج بأصحابه باهلوه وأنه ليس برسول صادق، وإذا خرج بأهل بيته الخاصين لا تباهلوه؟ لماذا؟
الشيخ:
هنا تدل المسألة على مدى الاطمئنان الذي يقوم به الشخص في عمله. تارة يريد عملاً إعلامياً يخرج بمظاهرة بمجموعة من أصحابه ومن معه، ويستعرض قوته وأصحابه وأنصاره، فمعنى ذلك أنه ينطلق من منطلق التفاخر. بينما عندما يعيش حالة الاطمئنان المطلق، فمعنى ذلك أنه سيخرج بأحب الخلق إليه؛ لأن المسألة فيها دعوة لطلب الهلاك. أحسنت، يعني إهلاك الكاذبين: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾. المسألة عندما يضحي... الإنسان حتى في موارد الصراع التي يعيشها في حياته، يحاول أن يضحي بالأبعد ليحمي الأقرب. فإذا وصلت حالة التضحية عنده للتضحية بالأقرب، فهي مستوى عالٍ من التضحية، وهو ما تجسد في عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام.
فهنا قال لهم: "قد علمتم يا معشر النصارى -والكلام للزمخشري الذي ينقله- أن محمدًا نبي مرسل، وقد جاءكم بالفصل من أمر ربكم، والذي ظهر هو من خلال هؤلاء الذين ظهروا. والله -والقسم لعبد المسيح كما يقال العاقب- ما باهَل قومٌ نبيًا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإن فعلتم لتهلكون، الهلاك سيحل عليكم. فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه (تبقون نصارى)، عليكم أن تدفعوا الجزية. إما أن تسلموا، وإلا إذا أردتم البقاء فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم".
ينقل الزمخشري قائلاً: "فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -يصف الحالة التي جعلت العاقب يأخذ هذا الموقف- وقد غدا مُحتضنًا الحسين عليه السلام، آخذًا بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها. وهو يقول: إذا أنا دعوت فآمِّنوا".
فقال أسقف نجران: "يا معشر النصارى، إني لأرى وجوهًا لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها. فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة". فقالوا حينئذ: "يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك، وأن نُقرّك على دينك ونثبت على ديننا". قال لهم: "إذاً أسلموا، وإلا فالجزية". إلى آخر الحديث عندما عرض عليهم ذلك. قالوا: "ما لنا بحرب العربي طاقة، ولكن نصالحك..." إلى آخر ما ورد في تفاصيل الاتفاق.
المقدم: قبلوا الجزية يعني؟
الشيخ:
قبلوا الجزية. لذا ورد عندنا بالأحاديث أن أسوأ النصارى -طبعًا هناك مدح في القرآن الكريم للنصارى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾- في الأحاديث تقول: أسوأ النصارى هم نصارى نجران. لماذا؟ لأنهم تلمسوا الحق، ومع ذلك لم يلتزموا به. يعني أدركوا من خلال القرائن والأدلة والمعطيات التي اتضحت أمامهم، وما بيّنه لهم كبيرهم، بأن الحق مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم أبوا إلا أن يبقوا على ما هم عليه. لذا ورد في ذمّهم ما أشرت إليه في هذا السياق.
حول الفقرة الثانية التي أشار إليها الزمخشري في هذه الآية، يعني في نفس حديثه عن ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا﴾، وهي ما أشار إليها الأخ السائل سيد مهلي عن عائشة رضي الله عنها. والكلام للزمخشري: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج وعليه مِرطٌ مُرتجف من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم علي. ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾" [آية التطهير]. فهذا يا أخ سيد مهلي، ما يرتبط بآية التطهير وبالمباهلة مما نقله الزمخشري عن أم المؤمنين عائشة.
المقدم: أحسنتم سماحة الشيخ. إذاً نعود للبحث الذي بدأناه قبل الفاصل، موضوع الكفر وأنواع الكفر. تفضلتم هناك نوعان أساسيان: كفر جحود وكفر تمرد، أو كفر إلحاد وكفر معصية.
الشيخ:
نعم، يعني هو كفر الجحود والإلحاد هو واحد، والتمرد والمعصية هو واحد. يعني نُعبِّر عن القسمة بنموذجين: جحود أو تمرد؛ إلحاد أو معصية.
ما ذكرناه في المحور السابق من الحديث من آيات قرآنية كريمة ترسم لنا نموذجًا لحالات كفر الإلحاد أو كفر الجحود:
- من يقول: ﴿وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾، لا يؤمن بأن الله تعالى هو الذي يسير الكون وهو الذي يحيي ويميت.
- من يقول: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾، يُنكر أن تكون هناك حياة أخرى بعد هذه الحياة.
- من يكفر بالرحمن، أيضًا يُنكر وجود خالق.
هذه نماذج لكفر الجحود. وهناك آية أخرى أيضًا ترسم لنا معلمًا وصورة من هذه الصور تقول في سورة النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾. هذه من مصاديق الكفر الذي تحدثنا عنه.
هذا كله يندرج تحت الصنف الأول في الحديث. ونحن في سياق كلامنا حول سؤالكم، أن الآية الكريمة التي هي مورد البحث: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾. الكافرين المقصودة بها هذه الآية ليس المقصودة منها هذا القسم من الكفر الذي هو كفر الجحود والإنكار؛ لأن من يتصف بصفة كفر الجحود لا يكون مؤمنًا، وبالتالي لا ينطبق عليه الخطاب الذي ورد في الآيات: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾.
كفر التمرد (المعصية) وقصة إبليس
الشيخ:
هنا ننتقل إلى الجانب الآخر أو النموذج الآخر: كفر التمرد أو المعصية.
نجد النموذج الذي يرسم معلمًا وأساسًا للعاصي الأول الذي رسم أسس المعصية بين بني البشر، ما يقوله أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى خُطبه: "الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حِمَىً وحَرَمَاً على غيره، واصطفاهما لجلاله، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عبادي".
إذن هناك صفات اختصها الله تعالى لنفسه. من يقترب من هذه الصفات من المخلوقات، بدل أن تناله الرحمة التي تحدثنا عنها في المحور السابق وأن الله تعالى يريد الخير لعباده ويريد لهم الرحمة، من يقترب من تلك الأمور فمعنى ذلك أنه تنقلب الحالة، الإرادة الإلهية، بين أن تناله الرحمة لكي تناله حينئذ اللعنة.
ثم يقول أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن يذكر هذه المقدمة والتي تحكي قصة الكون، قصة بدء الخليقة: "ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين. إذن ليست المسألة عند هؤلاء لكي يصلوا إلى مرحلة الإنكار والجحود، المسألة ترتبط بالطاعة والمعصية. فقال سبحانه وتعالى وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾، ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ﴾".
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: اعترته الحمية (يعني لأن الله منحه الاختيار). إبليس عنصر مشترك بينه وبين البشر، كما أشرنا في مرة سابقة، هناك صفة اختيار عند إبليس؛ لأنه من الجن، الملائكة مخلوقاتهم يفعلون ما يؤمرون. "اعترته الحمية".
فهنا يقول عليه السلام: "اعتبروا" -خطابه لمن؟ للمؤمنين، علي عليه السلام لا يخاطب الكافرين هنا، لا يخاطب غير المؤمنين- "اعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة، لا يُدرى" -علي عليه السلام الذي يقول سلوني قبل أن تفقدوني، حول هذه يقول لا يُدرى (لا يقول لا أدري)، لا يُدرى لأنه لا يريد أن يُدرينا، لا يريد أن يُعلمنا بذلك- "لا يُدرى أَمِنْ سنّي الدنيا أم من سنّي الآخرة". وطبعًا عندما نتحدث عن سنّي الآخرة: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾، وبآية أخرى خمسين ألف سنة مما تعدون.
ثم يقول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾. الكفر الذي وُصف به إبليس هو ليس كفر إنكار، نعم، ليس كفر جحود، بل إن إبليس مؤمن. وإيمان إبليس الذي عبد الله ستة آلاف سنة، هو ليس منكرًا لأن الله هو الخالق، ليس منكرًا بأن الله يحيي ويميت، صحيح، ليس منكرًا للبعث يوم القيامة. لذا نجد الآية الكريمة التي تقول في سياق الحديث مع إبليس: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
في سياق الخطاب بينه وبين الله تعالى، قال له: ﴿فَأَنظِرْنِي﴾ يا إلهي، وكأنه يُدرك تمامًا أن الله العادل سيعطي إبليس حقه من العبادة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾. ولكن أين يُعطيك هذا الثواب، أين يُعطيك هذا الحق؟ له قواعده وله أسسه. فعندما يقول إبليس الذي تمرّد على الله تعالى وعصى أمر الله تعالى: "إذا يا رب، إذا كانت المسألة قد وصلت إلى هذه النتيجة، ولن تقبل مني أن لا أطيعك في هذا السجود الذي تريده لمن خلقته بشرًا ولمن خلقته من طين، إذاً لي طلب عندك يا رب: ﴿فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾". يعني أنت ستكون بداية الجنس البشري مع آدم، ولا بد من أن يصل الجنس البشري إلى نهاية، لكل بداية نهاية. بداية الجنس البشري مع آدم، وهناك يوم سينتهي، تنتهي فيه حياة الجنس البشري عن هذه الأرض. "أعطني المهلة، أعطني الفرصة، أعطني المجال لأن أبقى إلى ذاك اليوم". ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾.
لذا نجد في هذا السياق أن هذه الآية السابقة التي قلنا عنها بيّنت لنا أن إبليس من الكافرين. الآية الأخرى تقول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾. في آية وُصِفَ بالفسق، وفي آية أخرى وُصِفَ بالكفر. فالكفر الذي تشير إليه الآية يدلنا على أن هناك كفر معصية، كفر تمرد، وليس كفر جحود وكفر إنكار. وهو ما ينطبق عليه موضوع الآية الكريمة التي نتحدث عنها: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ (آية 32 من سورة آل عمران).
الفرق بين الكفر والفسق
المقدم: سماحة الشيخ، ما تبقى من وقت البرنامج حدود دقيقتين أو ثلاث. هل الكفر والفسق شيء واحد، أم هناك فرق؟ وما الفرق بين الكفر والفسق؟
الشيخ:
بما أن الوقت المتبقي دقيقتان، سنتذكر شيئًا موجزًا ونترك التفصيل لحلقة قادمة إن شاء الله.
ما نقوله بهذه العجالة: الكفر بيّناه، نعم، كفر جحود وكفر إنكار (أي كفر معصية وكفر جحود). الفسق له عنوان آخر، ولكن الفسق يوصل إلى الكفر. فعنوان الكفر هو أعم من عناوين الفسق. من يكون في مورد الكفر بمعنى الأول الذي ذكرناه (كفر إلحاد، كفر جحود)، لن نقول عنه أنه فاسق؛ لأن كلمة الفاسق تُطلق على من يُخالف ويَعصي، ويمكن أن تصل هذه المخالفة والمعصية إلى أن يكون كافرًا، ولكن يكون على نحو كفر المعصية وكفر التمرد.
المقدم: إذن يعني كفر المعصية والتمرد يساوق أو يساوي الفسق؟
الشيخ:
الفسق يوصل، لأن عنوان الكفر يبقى أعمّ. سنتحدث بشيء من التفصيل عن ذلك. نشير بإيجاز بالوقت المتبقي إلى مطلع حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام يبيّن لنا حقيقة كل منهما، ونترك التفصيل إلى الحلقة القادمة.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "بُني الكفر على أربع دعائم". نعم، يعني الأمور التي يرتكز عليها الكفر والتي توصل إلى الكفر هي أربعة: الفسق، الغلو، الشك، الشبهة. أربع عناوين، كل منها هذه الأسس التي توصل إلى الكفر. الفسق هو واحد منها، الغلو هو واحد منها. الذين يعبدون عبادًا ويعتبرونهم بموقع الألوهية، هذه واحدة من التي توصل إلى الكفر، كما يُوصف به: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾. فهذا النوع من الكفر ليس كفر إنكار، ليس كفر جحود، هذا كفر من هذا النوع الذي يوصل إلى كفر المعصية والتمرد.
الشيخ: والفسق، والغلو، والشك، والشبهة. ثم يقول عليه السلام: الفسق يُبيّن الأسس التي يُبتنى عليها الفسق. يقول عليه السلام: "الفسق على أربع شُعَب". يعني لكي يُوصف الإنسان بأنه فاسق، مثل ما أن الكفر له هذه الدعائم الأربعة، الفسق له شُعَب أربع أيضًا، يُبيّنها أمير المؤمنين عليه السلام ويُبيّن نماذجها وما يدل عليها في كلامه، الذي نحاول إن شاء الله أن نتحدث عنه في الحلقة القادمة.
المقدم: شكرًا جزيلاً سماحة الشيخ. جزاكم الله خير الجزاء. مشاهدين الكرام، أشكر متواصلتكم. وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
التعليقات
لا توجد تعليقات على هذا المقال بعد. كن أول من يعلق!