• الموقع : كتاباتي- صفحة الشيخ مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : كتاباتي .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : اخفيت دمعتي وودعته بابتسامة .

اخفيت دمعتي وودعته بابتسامة

      وصلت كما هي عادتي في أكثر الايام قبل الوقت المقرر لبحث سماحة المرجع الاستاذ السيد محمد صادق الروحاني بعد الانتهاء من بحث سماحة المرجع الاستاذ الشيخ الوحيد الخراساني..
بدأت الحسينية تمتلئ مع توافد القادمين لحضور بحث سيدنا الاستاذ..
وكان من بينهم شيخ جليل .. كبير السن.. لطيف المعشر.. من منطقة تبريز..يحرص على حفظ  معاني الكلمات والمفردات .. بعدة لغات..
     كان هذا الشيخ قد سألني في يوم سابق قائلا : هل يوجد معنى آخرلكلمة الجور .. غير معناه المعروف المناقض للعدل؟

     قلت له من الافضل ان تحضر لي النص الذي تقول أنك قرأته في كتاب وفيه هذه الكلمة..
     وقبل ان يحضر سماحة السيد بدقائق تذكر صديقنا الشيخ سؤاله وأخرج ورقة ليقرأ منها جملة تتعلق بأحكام المسح في الوضوء، وفيها ما يتعلق بعدم جواز المسح على الخف والقلنسوة والنعل والجور...
تبسمت وقلت له: إن الكلمة التي تسأل عنها هي كلمة "الجورب" وما ورد في الكتاب الذي تنقل عنه نقصت منه حرب الباء..
رفض الشيخ الجليل جوابي قائلا.. كلا ليس في الكلمة نقص بل هي تستعمل بمعنى الجورب كما ورد في تعليق على تلك الكلمة في ذاك الكتاب.. وأصر على رأيه..
     في هذه الاثناء خرج سماحة السيد من غرفته الى قاعة الحسينية لاعطاء الدرس.. حيث يجلس على الكرسي المخصص له وأجلس على يمينه وأمامي جهاز الكومبيوتر الخاص بي.. وكان صديقنا الشيخ لا يزال يكرر رايه بصوت عال بحيث سمعه جل الحاضرين..
     التفت السيد نحونا مستفسرا قبل شروعه ببحثه.. فحكيت له حكاية صديقنا الشيخ ..
تبسم السيد الاستاذ و وجه كلامه نحو الشيخ قائلا ومشيرا الي.. إنه لا يعرف كل مفردات اللغة العربية..
ضحك الجميع لهذه الطرفة ... وابتدأ السيد في بحثه..

     انتهى البحث وخرجنا ..وتذكرت أن عليَّ أن أشتري هدية لبعض الاقارب ممن انتقل الى بيت جديد..
لقد ذكَّرتني ام محمد بذلك وفضلت أن تكون الهدية شيئا مما يستعمل في المنزل..
خرجت بهذا القصد  قاصدا بعض المحلات .. ولكن لفت نظري محل جديد يبيع لوحات فنية يدوية الصنع..
أعجبتني لوحة محفورة عليها اسماء أصحاب الكساء الخمسة.. فامتزج الشكل بالمضمون في لوحة أعادت ذاكرتي الى اكثر من ثلاثين سنة..
في تلك الفترة من سني عمري رغبت هذا النوع من الفن.. ولا زلت احتفظ بلوحة صغيرة حفرت عليها أسماء اصحاب الكساء وحفرت تاريخ صنعها في العام 1976 م ..
لم اتردد في شراء هذه اللوحة إذ رأيت فيها هدية لا يمكن ان تقارن بأي شي من اثاث المنزل ..
حملت هذه اللوحة بعد أن لفها البائع بما يحفظها بيد، وحملت حقيبة كومبيوتري الذي يرافقني باليد الاخرى وتوجهت الى موقف الباص الذي ينقل الزوار مجانا في  محيط حرم السيدة فاطمة بنت الامام الكاظم (ع) الملقبة ب(المعصومة) لكي اصل الى حيث استقل سيارة الى منزلي..

                                                                   ***
       كان الباص مزدحما.. وعندما وصل الى المحطة الثانية نزل منه عدد من الركاب فجلست على احد المقاعد التي فرغت.. وفي قبالي جلس رجل كبير السن تعلوه علائم الوقار..
      ولكن ما أن استقر على ذاك المقعد للحظات حتى قام مسرعا وجاء ليجلس على المقعد الفارغ بجانبي..
       أحسست بأنه يريد أن يتكلم معي.. ولكن لم اكن لاعرف عما يريد ان يتحدث..
       سلم علي بكل أدب واحترام..
      لا ادر لما اختارني من بين علماء الدين المتواجدين في هذه اللحظة على نفس الحافلة..
      قال لي اريد أن أسالك سؤالا..  ولكن لا تؤاخذني إن كان موضوعه ليس سؤالا شخصيا.. ولا تسيئ فهمي فإنني لا اقصد الاساءة لأحد..
      فهمت من هذه المقدمة أن كلامه سيتناول شيءا يتعلق برجال الدين..
      عن ماذا يا ترى يريد ان يحدثني؟ 
      قبل سنتين تقريبا او يزيد قليلا كنت قد كتبت مقالا بعنوان:
                                    من المسؤول عن الحالة العدائية تجاه رجال الدين في المجتمع الايراني؟
ولا شك أن هذا الرجل الكبير يريد أن يحدثني عن شيء يتعلق برجال الدين.. ولكن كيف سيكون كلامه؟
أجبته مرحبا قائلا .. تفضل .. قل ما تريد .. ولا تتحرج من شيء..
وقلت في نفسي : ألم يَقلْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ فَسَعُوهُمْ بِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَ حُسْنِ اللِّقَاءِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) يَقُولُ إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ فَسَعُوهُمْ بِأَخْلَاقِكُمْ ؟.

 قال لي هذا الرجل الكبير.. لماذا تغير سلوك رجال الدين في هذا الزمن؟ لماذا لا يحافظون على صورة الوقار التي كانوا يتصفون بها؟ لماذا نرى نسبة منهم لم تعد تبالي بصورتها التي عليها ان تظهر بها أمام الناس؟
واردف قائلا:
لماذا صرنا نرى عددا من رجال الدين يظهر خصلة شعر على جبهته من تحت عمامته؟
ويترك شعر رأسه ظاهرا من وسطها؟
إن بعض الفتيات يتغاوين بإبراز أجزاء من شعورهن على الجبهة أو اسفل الرقبة.. فإن كانت الفتيات يفعلن مثل ذلك للفت الانظار اليهن.. فلماذا يفعل بعض رجال الدين مثل ذلك ؟ هل يريدون ان يقلدونهن؟!!
لقد استرسل هذا الرجل الكبير في كلامه وراح ينظر الى ملامح وجهي.. وينتظر بما سأجيبه.. هل سأنزعج من سؤاله؟ وأنا الذي قلت له سل ما تريد..
هل سأدافع ؟ أم سأبرر؟ ام ماذا ؟
ساد صمت للحظات.. والتفت اليه قائلا:
سأحكي لك حكاية حصلت معي منذ أكثر من عشر سنوات عندما كنا في زيارة لمشهد الامام الرضا (ع)..
يومها كانت مجموعة من الزوار اللبنانيين آتية لزيارة من يطلق عليه عندنا كما في نصوص الزيارة : غريب الغرباء، السلطان ابا الحسن علي بن موسى الرضا (ع)..
ويأتي هؤلاء الزوار كما يأتي غيرهم من أصقاع الدنيا لما علق في قلبهم من حب الائمة الاطهار..
لقد وصلهم حديث الامام الرضا (ع) عندما يقول: 
 إِنِّي سَأُقْتَلُ بِالسَّمِّ مَظْلُوماً وَ أُقْبَرُ إِلَى جَنْبِ هَارُونَ الرَّشِيدِ وَ يَجْعَلُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ تُرْبَتِي مُخْتَلَفَ شِيعَتِي وَ أَهْلِ مَحَبَّتِي فَمَنْ زَارَنِي فِي غُرْبَتِي وَجَبَتْ لَهُ زِيَارَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ الَّذِي أَكْرَمَ مُحَمَّداً بِالنُّبُوَّةِ وَ اصْطَفَاهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلِيقَةِ لَا يُصَلِّي أَحَدٌ مِنْكُمْ عِنْدَ قَبْرِي إِلَّا اسْتَحَقَّ الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَ الَّذِي أَكْرَمَنَا بَعْدَ مُحَمَّدٍ (ص) بِالْإِمَامَةِ وَ خَصَّنَا بِالْوَصِيَّةِ إِنَّ زُوَّارَ قَبْرِي أَكْرَمُ الْوُفُودِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَزُورُنِي فَتُصِيبُ وَجْهَهُ قَطْرَةٌ مِنَ الْمَاءِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ.
وتابعت حديثي ساردا تلك الحكاية..
وكان مع تلك الحملة امرأة كبيرة السن، ترتدي عباءة من العباءات النجفية..
قالت لي تلك المرأة بلهجتها الجنوبية المميزة: بدي أسألك سؤال..
قلت لها تفضلي يا حاجة.. قالت: يا روحي ليش المشايخ هنا يلبسون العمامة بهذا الشكل؟ لهم غرة شعر على جبهتهم ..كأنهم يتباهون بشعرهم كما تفعل النساء!!
قلت لها : من حضرتُك يا حاجة؟
قالت: أنا زوجة المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية..
تبسمت وقلت لها..
نعم أنت تنظرين الى هذه المسالة بالذهنية التي كانت سائدة في النجف الاشرف..
هكذا كان العرف الاجتماعي في النجف في تلك الايام وفي الايام التي عشتها طفلا في النجف ثم شاباً..
ولكن هذا الذي تفكرين فيه.. يختلف عما عليه الناس هنا..
لا احد منهم يعتبر هذا المظهر منافيا للسلوكيات التي على طالب العلم او عالم الدين ان يتحلى بها..
نعم إن هذا يعود الى اختلاف في الثقافات.. ليس إلا..
وتابعت قائلا لتلك المرأة: نعم هنا أشياء اكثر من ذلك لو اردنا ان ننظر اليها بتلك النظرة التي كانت سائدة في النجف او حتى في لبنان او في بلاد اخرى لوجدناها شيئا كبيرا..
إن منظر رجل الدين الذي يقود دراجة نارية وخلفه زوجته واحيانا بعض اولاده.. هي من الامور التي تعتبر في عرفنا امراً مستهجناً .. اما هنا فقد تم تكريسها في قم منذ سنوات أخرى كأمر عادي.. لاهداف استصوبها اصحابها هنا .. ولكنها لا تصلح في أماكن اخرى..

حكيت لهذا الرجل حكاية تلك المرأة .. علها تخفف شيئا من امتعاضه..
ولكنه نفث من صدره آهة متألم.. إذ راح يستعرض صورا من الحالات المعاشة في ايامنا قائلا.. وهل بقي لدينا خمسون بالمائة مما كان عندنا؟؟
أين كنا وأين أصبحنا والى اين نسير؟
شعرت بحرقة في كلامه.. لم يكن إيرانيا.. إذ بعد ان استعرض نماذج لما اعتبره تراجعا في مستوى التدين على عدة مستويات.. وبعد أن تساءل : كيف يصير الشطرنج حلالا.. وكيف تجري المسابقات.. وكيف وكيف ..وراح يتحدث عن الالم الذي يعيشه الافغان.. في بلادهم وغير بلادهم..
كنا قد وصلنا الى المحطة الاخيرة من محطات حافلة الركاب في ميدان الشهيد مطهري.. عندما ختم حديثه معي قائلا .. ليس لنا إلا الدعاء بأن يفرج الله عنا بظهور بقية الله الاعظم..
ذهب بي الخيال نحو الافغان وتاريخهم القديم والحديث..
ففي القرن الماضي تخلد اسم جمال الدين الافغاني ، والذي يطلق عليه في ايران لقب " الاسترآبادي" بدل " الافغاني" نسبة الى بلدة في ايران.
وبلادهم تعيش مآس وحروبا منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن..
تذكرت خبرا قرأته في الصباح  عن  شريط فيديو  يتم فيه تعذيب رجل افغاني بصورة همجية اثارت استنكارات عالمية..
 لم يكن أمامي إلا أن أخفيت دمعتي وودعته بابتسامة.

 


  • المصدر : http://www.kitabati.net/subject.php?id=88
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 05 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19