• الموقع : كتاباتي- صفحة الشيخ مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : كتاباتي .
              • القسم الفرعي : خواطر .
                    • الموضوع : ذكرى رحيل ام مصطفى، بين رجب وآذار .. عبرة وهدية... .

ذكرى رحيل ام مصطفى، بين رجب وآذار .. عبرة وهدية...

عندما يفقد الانسان عزيزا يشعر بأن شيئا ما قد غاب عن حياته وأن فراغا قد حصل ولا يملؤه سوى تقادم الأيام التي تعمل على ملئ ذاك الفراغ الذي يحدثه غيابه.

 ومَثَله في ذلك كمثل من يكسر احد عظامه فينتظر مرور الأيام كي ينجبر ذاك الكسر من الجسد.

ولكن النتائج تختلف بين حالة وأخرى، بين حالة سرعان ما يطويها الزمن، ويلفها النسيان،

وبين حالة تبقى آثارها شاخصة تتجدد عاما بعد عام..

من الصنف الثاني كان رحيل الفقيدة الغالية ام مصطفى، التي رحلت عنا قبل عام تصرم اليوم من عمر الزمن،

إلا أن صورتها لا تزال شاخصة في ذاكرة كل من عرفها وعايشها،

ليس من ذوي أرحامها فحسب، بل كل من كانت له معها علاقة ما ، من صداقة .. او أخوة .. أو زمالة .. او علاقة تلامذة باستاذتهم. 

كل من عرف الراحلة ام مصطفى يحن الى أيام وساعات ولقاءات ومناسبات كانت لها فيها بصمة مميزة ويستذكرها بكل تأثر وتحسر...

عندما رحلت عنا قبل عام الى بارئها ، رحلت هادئة مطمئنة وكان كل شيء منظم بعد رحيلها وفق تخطيطها من الصغيرة وحتى الكبيرة .. بل وحتى لم تغفل عن بعض الهدايا التي جهزتها في حقيبة لكي تبعثها الى أخواتها و صديقاتها في لبنان مما تعرف انهن يأنسن به، فوظبت تلك الهدايا وكتبت على كل هدية اسم صاحبتها..

 وبعد رحيلها انكشف لنا بعض عملها الصامت.. ذاك العمل الذي كانت ترجوا به وجه الله وحده.. دون أن يعرف به حتى أقرب المقربين..

بعد رحيلها وفي حفل تأبينها من زملائها في جامعة كربلاء وعندما وقفت متحدثا بعد أن خنقتني العبرة مستذكرا طلبا منها أن أحل ضيفا متحدثا في كليتها، كلية الصيدلة بعد أن لبيت دعوة سابقة في كلية القانون، ولكن تسارع الاحداث لم يحقق ذاك الغرض الا عندما وقفت مؤبنا لها وأنا أرى الدموع في عيون الحاضرين ، عرفنا في ذاك اليوم انها كانت ترعى دعما لوجستيا لمساعدة الابطال وعائلاتهم من الذين لبوا  واستجابوا  لنداء المرجعية في الجهاد الكفائي دفاعا عن العراق وأهله وكرامته..

بل وأكثر من ذلك عرفت من بعض طلابها أنها كانت تخصص قبل كل محاضرة تلقيها على طلبتها في كلية الصيدلة عشر دقائق لموضوع أخلاقي تختاره و تقول لهم فيها : ان استفدتم من هذه فستستفيدون من دراستكم، وإن لم تستفيدوا منها فلا فائدة من دراستكم..

وكأنها كانت تقرأ المستقبل لناحية أهمية البعد الأخلاقي لهذه المهنة فعملت الراحلة مع طلابها على تثبيته وتأصيله، وها هو العالم اليوم قد بدأ يتلمسه بعد انتشار هذه الجائحة القاتلة في ارجاء المعمورة، (فايروس كورونا ) حيث انقسمت البشرية الى قسمين، قسم يتعاطى مع هذا الحدث ببعده الإنساني الأخلاقي، وقسم يتعاطى مع الحدث بمقياس المادة على كل اعتبار، ومقدار الأموال التي يوفرها او يصرفها او يجنيها، ولا قيمة لديه لأرواح العباد طالما انها تدر له كسبا او توفر عليه مصروفا ..

اليوم هو الثامن والعشرون من شهر آذار من عام 2020

ويصادف وفق التقويم الهجري، الثالث من شهر شعبان لعام 1441 ..

لقد مضى عام ميلادي كامل على رحيلها، فحضرت ام مصطفى اليوم في ذاكرة من أحبها وعرفها في لبنان وأنس بحسن أخلاقها، فخصّوها بثواب صيام  الامس. و تشاركوا بقراءة  ختمة كاملة من القرآن الكريم هذا اليوم، وأهدوا ثوابها الى تلك الراحلة بصمت وهدوء وطمأنينة، إذ لم تغب ذكراها عنهم فقد ترك غيابها غصة لديهم.

اما يوم ذكراها وفق التاريخ الهجري الذي مر قبل أحد عشر يوما أي في الحادي والعشرين من شهر رجب فكانت ذكراه حية في كربلاء رغم تقيد الحركة هناك، حيث استمعت يومها وعبر الانترنت الى مجلس عزاء في منزلها ولكنه مجلس ليس كبقية المجالس..

إذ أن عادة المجالس التي يقيمها الموالون في المناسبات هي في ان يرتقي منبرها خطيب ويصغي اليه الحاضرون.. أما هذا المجلس فقد اختلفت فيه الأمور..

مجلس يحوى ثلة من الخطباء المفوهين، هم المتحدثون وهم الحضور مع بعض الشخصيات التي أبت الا المشاركة في ذكرى الراحلة رغم الظروف الموضوعية المحيطة بكربلاء من ذوي الأثر الفعال في المجتمع..

ابتدأ الأخ العزيز الخطيب الشيخ عبد الأمير المنصوري المجلس بآيات من القرآن الكريم، وكان مما قرأه قوله تعالى:

 فستذكرون ما أقول لكم وافوض امري الى الله ان الله بصير بالعباد..

نعم إن الله بصير بالعباد..

شرع في القراءة بعده الخطيب الالمعي السيد داخل السيد حسن..  فكان من مطلع الابيات المؤثرة التي شنف الاذان سماعها:

عـفّـيــت يا ربــع الأحبّـة بعدهـم * فذكّرتنـي قبــر البـتـولة إذ عفّـــي

هذا المجلس  ، هو مجلس استثنائي برمزيته.. اذ تناوب على القراءة فيه بقية الخطباء الحضور كل يشارك بفقرة لها نكهتها الخاصة والمميزة في هذا المجلس الاستثنائي.

 مجلس أقيم في ذكرى مرور عام على رحيل أم مصطفى  في منزل طالما دعي اليه الخطباء .. فكانت تقوم بأكثر من الواجب..

لا شك أن لكل واحد من هؤلاء الخطباء ممن حضر في هذا المنزل ذكرى فلطالما كانت ام مصطفى تستقبل الخطباء عندما يدعوهم أبو  مصطفى .. وتأنس بهم واحدا تلو الاخر.. كيف لا و هي ترى انها تقيم مجلس سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين عليه السلام في منزلها الذي يرتاده الصفوة من الخطباء، فمن منهم ممن حضر اليوم او ممن لم يتمكن من الحضور  لا يتذكر.

في هذه الذكرى استوقفتني مجموعة من الخواطر..

الخاطرة الأولى: في مثل هذا اليوم وقبل عام كنا على وشك السفر من قم الى كربلاء..

كان طيف ام مصطفى حاضرا فذهبنا الى محل قريب من منزلنا كانت قد ذهبت اليه  مع ابي مصطفى قبل عام من ذاك التاريخ ، وفي شهر رجب أيضا، وقد اختارت بعض الأشياء لاستقبال شهري شعبان ورمضان، وها نحن نود أن نحضر لها ما ترغب.

 لقد أمضت يومها مع ابي مصطفى عندنا أياما وكانت تتردد في كل يوم لزيارة السيدة المعصومة مستعينة بالعربة، وكأنها كانت تودع السيدة المعصومة..

و في هذه الاثناء وبعيد عودتنا ، وصلنا الخبر المؤلم برحيلها ، فصرنا نرى صورتها في كل ما أحضرناه ... لقد رحلت ام مصطفى دون أن نوصل اليها ما ترغب، سبحانك يا رب السماء.

الخاطرة الثانية: في الأيام الأولى من شهر رجب من العام الماضي وقبل رحيلها بأيام  كان آخر تواصل هاتفي مسجل  نسمع فيه صوت ام مصطفى ونحن في حرم الامام الرضا عليه السلام  مذكرين إياها بزيارتنا معا قبل من ذاك التاريخ .. كانت تتذكر شهر رجب السابق أيضا حيث كنا معا في زيارة ثامن أئمة الهدى، وتناولنا الفطور معا في مضيف العتبة الحسينة في مشهد.

فكان مما قالته في تلك المخابرة الأخيرة بصوت ضعيف..  ادع لي.. فأنا حزينة لأنني لم أتمكن هذا العام من زيارة غريب الغرباء...

الخاطرة الثالثة: ذهبت بي الذاكرة  تسع سنوات الى الوراء...

في يوم العشرين من شهر رجب أيضا من تلك السنة من عام 1432 للهجرة .. كانت ام مصطفى برفقة ابي مصطفى والعائلة في زيارة الامام الرضا عليه السلام ، وحلوا ضيوفا في المساء لدينا.

كان ذلك قبيل رحلة الاستقرار نحو كربلاء التي ابتدأت بتلبية دعوة لزيارة تلقيتها للمشاركة كضيف في مهرجان ربيع الشهادة العالمي السابع والذي كان في مثل هذا اليوم الثالث من شعبان، والتي تحولت بعدها الى إقامة دائمة في كربلاء لأكون مع خدمة الامام الحسين عليه السلام في تلك الرسالة...

عندما قررت الاستجابة لطلب الاخوة في العتبة الحسينية للاستقرار في كربلاء المقدسة وبحثوا عن منزل للإقامة فيه، وعرض علينا منزل مجاور لمنزل أبي مصطفى .. فلم يكن من داع لننظر الى مواصفات المنزل أو مكانه، اذ يكفي اننا سنكون مجاورين لابي مصطفى وام مصطفى ، ولم يعد من داع للتفكير في مكان آخر.. لقد قالت لي ام محمد يومها.. ليس مهما كيفية المنزل ومكانه إذ يكفي أنني سأكون بجوار ام مصطفى..

الخاطرة الرابعة :التي استوقفتني هذه السنة .. وجعلتني أتأمل بفقرة من دعاء زين العابدين عليه السلام .. ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور.. أخذتني بعيدا.. لتطفئ شيئا من حرارة الفراق والتي اعتقد ان آخرين يشاركونني في نفس الامر .وهي أنه ماذا لو تأخر رحيل ام مصطفى من العام الماضي  الى أيامنا مثلا؟  لا شك في أننا سنشعر بمرارة اكثر في هذه الأيام التي لن يستطيع احد ان يقوم بأدنى الواجبات..

ففي العام الماضي .. شيع الاحبة ام مصطفى، وأقاموا لها الفاتحة لأيام وأحيا ذكراها طلبتها في جامعة كربلاء.. ودفنت في النجف الاشرف بالقبر الذي هيأته لنفسها بأقرب نقطة ممكنة لأمير المؤمنين.

واستطاعت أن تودع قبل رحيلها وهي على تلك العربة وفي حالة تصارع الألم استطاعت أن تودع الامام الحسين عليه السلام وأخيه ابا الفضل العباس  قبل أيام من رحيلها،

اما في هذه الأيام فكل قد لزم منزله بعد هذا الوباء المنتشر ولا يستطيع احد فعل شيئ.. بل ولا حتى تشييع من يحب الى من يحب..

حينها شعرت ببرد ، فلقد اختار الله لام مصطفى أن ترحل سريعا في أيام استطاع الاحبة فيها التعبير عن محبتهم لها والقيام بواجباتهم.
اما اليوم فليس لنا في ذكراها بعد أن تعذر علينا زيارة قبرها في النجف الاشرف  الا نهديها ثواب صوم اليوم مع ثواب ختمة القرآن الكريم.. مستذكرا قبل شهر ونصف من الان ذهابنا الى واد السلام وقراءة سورة ياسين..

نردد اليوم من بعيد: انتم السابقون ونحن اللاحقون..

وما تدر نفس ماذا تكسب غدا، وما تدر نفس بأي أرض تموت..

لقد نظر الله اليك يا ام مصطفى نظرة رحيمة ..

الى روحك ايتها الراحلة ثواب الفاتحة..

مصطفى مصري العاملي


  • المصدر : http://www.kitabati.net/subject.php?id=659
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 03 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29