• الموقع : كتاباتي- صفحة الشيخ مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : كتاباتي .
              • القسم الفرعي : خواطر .
                    • الموضوع : رأيت الله في البحر .

رأيت الله في البحر

هذه فقرات مما دونته منذ ما يقرب من عشر سنوات في غرفة العناية الفائقة في المستشفى تحت العنوان التالي

رأيت الله في البحر

بعد صلاة الصبح من يوم الجمعة.. واثناء قراءتي لدعاء الندبة... رن جرس الهاتف... دقائق مرت وأسمع قرع الجرس..

يمر الوقت سريعاً، وأسمع منبه سيارة الحاج جميل.. لقد أتى لكي نذهب سوياً..

لا أحس برغبة في الذهاب .. وكأن حدسي يمنعني...

ولي مع الحدس حكايات...كم مرة في حياتي انجاني الله من شدائد.. من مخاطر.. وحتى من القتل.. ألا يقول علماء المنطق أن للعلم عادة خمس حركات ومراحل بين اللفظ ودلالته، والمعاني المرتكزة في الذهن.. و انها قد تختصر الى ثلاث حركات عند من يملك حدساً قوياً؟!!

كنت مساء الامس متحمساً للذهاب الى البحر .. ولكن في هذا الصباح تغير كل شيء..

ولكي أزداد يقيناً لجأت الى الاستخارة التي أيدت حدسي .. فلم أتردد في تلك اللحظة من النزول الى منزل والدي الذي سرعان ما أصبح جاهزا للذهاب..

وقفت عند الباب وقلت لهما لن اذهب اليوم معكما..

يصارعني في تلك اللحظة شعور بين أن التزم بما تواعدنا عليه من الذهاب وبين ما يأمرني به الحدس الذي أيدته مشورة السماء..

ويتدخل في تلك اللحظة والدي .. ليقول هيا اذهب معنا.. ويعقب بعده الحاج جميل.. لولاك لم نذهب اليوم..

وهنا حُسم الموضوع بشكل آخر .. فما كنت لأخالف رغبة أبي.

صعدت مسرعاً وارتديت ثيابي وألحيت على ابني بمرافقتنا رغم عدم رغبته، وما هي الا بضعة دقائق حتى كنا جميعا مع شروق الشمس على ذاك الشاطئ الرملي الذي لم تصل إليه أشعة الشمس بعد..

وكانت تلك الحشرات البرمائية أو قُل الحيوانات الصغيرة الشقراء المنتشرة بكثافة تركض مسرعة نحو الماء بسيقانها المتعددة الرفيعة، وما أن شَعَرت بوجودنا حتى غابت ولم نعد نرى منها أثراً.

 سبحان الخلاق العظيم على ما خلق. لقد ذهب الحاج جميل ليتفقد أعجوبة من عجائب خلق الله عثر عليها منذ أيام عندما رمى البحر قرب الشاطئ سلحفاة يقرب حجمها من حجم الخروف وقد حاول تفريغ جوفها ليأخذها ويحفظها  فلم يستطع ، وها هو يعود دون ان يعثر لها على أثر..

( وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِريحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها  ) يونس: ٢٢ ٍ أعجبنا هدوء الماء، والرمل الناعم والسكون المسيطر على الافق البعيد، وقلنا ما أجمل هذا المكان...

مشى الجميع في الماء، تأخرت كثيراً عن اللحاق بهم، فوجئت بابني محمد وهو يسبح بما لم أعهده منه.. لقد أنس به جَدُّه.. وراحا يسبحان جيئة وذهابا..

وأنا أسير خلفهم وجاء الحاج جميل ليشجعني على السباحة...

لقد استمرت حالة الانس هذه ما يقرب من نصف ساعة واردت أن اسبح باتجاه الشاطئ. ( وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ)  يونس: ٢٢ 

 وأردت أن أقف لارتاح، وإذ بقدماي لا يصلان الى الارض.. حاولت السباحة مجدداً ظناً مني بأني فوق حفرة أستطيع تجاوزها ولكن دون نتيجة، صرخت ناحية الحاج جميل الذي كان خلفي مع والدي وابني بهدف تنبيههم الى المكان العميق،وتابعت السباحة دون نتيجة...

تقدم مني الحاج مسرعاً ووصل بالقرب مني وكنت أحسب أن الامر سيكون سهلا.. ولكن لم يتغير بوصوله شيء...

ظهر الارهاق على الحاج جميل وتركني مبتعداً عني متوجهاً نحو الشاطئ.

لم يستطع أبي أن يفعل لي شيئاً وبدا الانفعال عليه وهو ينادي الحاج جميل وكذلك ابني محمد..

حافظت على هدوء أعصابي رغم الارهاق الشديد..

(وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحيطَ بِهِم ) يونس: ٢٢ شعرت في تلك اللحظات أنني أصبحت وجهاً لوجه أمام الموت الذي لا بدَّ منه .. التفت الى ابني قائلا اذهب وخلص نفسك.. وقلت لابي دعني واذهب..

بدأت تنهار قواي ورحت أغطس تحت الماء ويطفوا رأسي قليلا.. لم أحاول التمسك بأبي وأنا أشاهد نهاية حياتي في البحر.. تذكرت حدسي والاستخارة ، ومجيئي رغماً عنهما استجابة لطلبة أبي.. وقلت في نفسي في تلك اللحظة التي أحسست فيها أنني امام الموت الحتمي ...وبجانبي أبي وابني لا حول لهما ولا طول.. وأشعر أن الخطر سيداهمهما خاصة إذا شاهداني اغرق أمام أعينهما .. ورحت أتمنى أن يتركاني وينجوا..

كم من الحروب عايشت، وكم من الاهوال في حياتي شاهدت، وكم مرة نجوت من خطف او قتل، بكمين أو عبوة أو قذيفة أو سيارة مفخخة، لا استطيع أن احصي في عجالة كل ما مرَّ علي من أهوال، لم أكن أشعر برهبة أو هيبة أو خوف، لقد تجذرت فيَّ قناعة طالما رددتها .. و سمعها مني كثيرون" ما أعيشه هو زيادة في عمري" .

ورحت أتذكر في تلك اللحظات أكثر تلك الذكريات التصاقاً بذاكرتي التي كنت أتصور فيها كيفية الموت.. مرة عندما اعتقلني الاسرائيلون عصر 29 شباط 1984 واقتادني ابو معروف ، ضابط المخابرات الاسرائيلية بسيارته ...

ومرة عندما وقفت في ساحة العقبية بين شباب شهروا سلاحهم بوجه بعضهم، عند قصة حسن هاشم، إذ كنت الوحيد الذي استطيع مخاطبة الجميع، وفي تلك اللحظة رحت ادفع هذا وأبعد ذاك وأتوقع سماع طلقة واحدة في ذاك الجو المحموم كي تحصل المجزرة التي سأكون أول ضحاياها ... وغير ذلك مما لا يمكن لي ذكره..

اما الان في الوقت الذي رحت أبلع من ماء البحر ولا استطيع العوم، ولا احد يستطيع ممن بجانبي تقديم العون لي فقد تراءى لي الموت في الماء غرقاً وليس فوق اليابسة.. ليس بالعبوة ولا بالرصاص.

إن عزرائيل الذي قبض روح ابن سليمان في السَّحاب لا شك أنه جاءني على بعد مائتي متر او ثلاثماية متر من الشاطئ وبجانبي ابي وابني الذين صرت افكر بنجاتهما اكثر مما افكر بنفسي: لقد شعرت انه لا مفر من هذا القدر.. وفي تلك اللحظة جاءت خاطرة..( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرين) يونس: ٢٢

 لم يعد يفصلني عن الغرق سوى ثوان قليلة.. مع احدى الغطسات فتحت عيني لأشاهد فقاقيع الهواء تخرج من فمي، شعرت بدوخة وفقدت الوعي للحظات.. يبدوا أنها لحظات الموت.. وسرعان ما بدأت تتغير الامور..

لقد افلتت البيجاما من قدمي فخف ثقل رجلاي وارتفع رأسي فوق الماء مجدداً ودبَّ الامل من جديد..

ولكنه كان كالفجر الكاذب إذ لم يدم سوى للحظات إذ أن ساعداي قد بلغا درجة من الارهاق لم تقويا بعدها على حفظ التوازن..

ولكن سرعان ما لاح أمل جديد ، فقد لامست قدمي الأرض ووقفت على نتوء صغير لم يكفِ الا لقدم واحدة على رؤوس الاصابع.. أخذت نفساً  والامواج تتجاذبني وانا أحاول البقاء واقفاً كرأس البلبل الذي يلعب به الاطفال..

نظرت نحو الشاطئ البعيد ورأيت الحاج جميل قد أحضر خشبة كبيرة وهو يعمل على ايصالها الي..

اقترب مني ودفعها باتجاهي .. وبقيت بعيدة بضعة أمتار، وهو يتقدم نحوها وكذلك أبي وابني كي يوصلوها الي.. وبعد جهد جهيد امسكت بالخشبة بما تبقى من قواي بل بما منحني الله من قوة جديدة.

أمسكت بالخشبة من وسطها ووضعتها على بطني رافعاً رأسي فوقها مرخياً قدماي وبدأ الجميع بدفعها قليلا قليلا حتى وصلنا الى مكان نستطيع الوقوف فيه باطمئنان.

لقد غرقت ضمن نواميس الطبيعة  عندما تكاملت العناصر المؤدية لذلك، فأنا في الماء أتخبط بعيداً عن اليابسة وطاقتي آخذة في التلاشي وامكانيتي للتغلب على هذه الحالة بدت مستحيلة ومن حولي لا يملكون القدرات السحرية وهم في وضع أعجز من أن يقدموا لي العون، ولم يبق امام عزرائيل الا تنفيذ المهمة الموكلة اليه.. لقد حان وقتها الطبيعي، غطست تحت الماء وفقدت الوعي.. لقد تحقق الغرق وحصل الموت وفق هذه النواميس.

وهنا يتلقى عزرائيل أمراً بوقف التنفيذ.. كما يتلقى منفذ حكم الاعدام أمرا بعدم إكمال سحب كرسي المشنقة ..

فلولا ان كان من المسبحين للبث في بطنه الى يوم يبعثون.

لقد مات يونس (ع) ضمن نواميس الطبيعة عندما ابتلعه الحوت، ولكن أمراً، مرسوماً، قانوناً، نظاما.. إرادة .. سمها ما شئت .. خرقت هذه النواميس والقوانين .. أو قل مراسلة غيرت مجرى النظام الكوني.. أعادته الى الحياة من جديد وعاد الى الشاطئ لتظلله شجرة من يقطين.

فما الذي غير هذا الناموس الطبيعي.. الم يكن التسبيح؟!

وهنا تذكرني عظمة التسبيح وقصة سليمان بن داود عليهما السلام، ذاك النبي الذي دعا ربه قائلا.

رب هب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي ..

وحشر له جنوده ن الجن والانس فهم يوزعون.

 وعلمناه منطق الطير.

وأتي بعرش بلقيس قبل أن يرتد اليه طرفه..

سليمان الذي سخرت له الريح تنقله ومن يريد حيث يريد، سليمان الذي عاش قبل عيسى المسيح، وكانت لديه كل تلك الامكانيات ولم يعش في القرن العشرين .. نراه يقول لمتعجب من عظمة ملكه عندما خرج في رحلة أو قل في نزهة على كرسيه من بيت المقدس وعن يمينيه ثلاثماية الف من الانس على كراسيهم، وعن يساره من الجن مثلهم وذهبت بهم الى بلاد الشرق الاقصى ومر بهم في نزهة بعد ان حملتهم الريح فوق الماء بحيث كادت اقدامهم تلامس الماء.. نراه يقول عندما سمع ذاك يقول: لقد اوتي بن داود ملكا عظيما، فيجبه .. وهل تعلم ما هو أعظم من هذا الملك؟ إنه التسبيحة أيها المتعجب.. فهذا الملك يزول والتسبيحة باقية.

 نعم فهذه التسبيحة هي التي تحكي عظمتها قصة سليمان (ع) هي التي أعادت يونس، غيرت ناموس الطبيعة،

 وارسلناه الى مائة الف او يزيدون.

وكذلك ننجي المؤمنين..

آية دائما نقرأها ونحسبها حكاية عن تاريخ مضى ولن يعود. إذ لا أنبياء بعد خاتم الرسل محمد(ص) ولم نكن ندر أنها تتجدد في كل حين وزمان.. بل لأقل أننا لم نكن ننتبه الى انها من الممكن ان تتجسد باشكال أخر تتفاوت فيها صور الحدث حسب الامر المرسوم للعناصر في علم الله..

وأدركت . الان انها ليست حكاية تاريخ فقط ..

نعم لقد رأيت الله في البحر ايضا..

اللهم لك الشكر .. بما زدته علي من اطمئنان ، وأسالك العون فيما انا خائف منه. إذ كلما أنجيتني من تهلكة أشعر أنك رفعتني درجة فأزداد خوفاً من هول السقوط.

رحماك يا رب السماء ورب الارض ورب البحر من الهول الاعظم.

مصطفى مصري


 


  • المصدر : http://www.kitabati.net/subject.php?id=78
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 11 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28