برنامج أئمة الهدى - الحلقة الرابعة: معنى الطاعة والتسليم للرسول (ص)
16-5-2012
مقدمة البرنامج
المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين، المصطفى محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. السلام عليكم مشاهدينا الأكارم ورحمة الله وبركاته.
بدايتنا في كل حلقة مع ما قاله الله الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.
تساؤلات نطرحها في مسيرة البحث عن الحقيقة الناصعة لنصل إلى الهداية الربانية:
- من هم هؤلاء الذين قرن الله طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله؟
- هل أنهم كل من وصل إلى السلطة أو ورث سلطة؟
- هل هم من ارتكب الجرائم وسفك الدم لينال سلطة؟
- أم أنهم أعدلُ الخلق، وأفضلُ الخلق، وأكملُ الخلق، وأعرفُ الخلق، وأعلمُ الخلق، صفوةُ الخلق بعد خير الخلق، بعد النبي صلى الله عليه وآله؟
- وأنهم أئمة اختارهم الله تعالى؟
ننتقل وإياكم أعزاء المشاهدين إلى محور من محاور هذا البحث المرتبط بأسس الهداية الإلهية لبني البشر عبر رسله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
أحييكم أطيب تحية في لقائنا المتجدد مع برنامج أئمة الهدى. محور حديثنا في هذه الحلقة حول معنى الطاعة لله ولرسوله، وكيف تتحقق هذه الطاعة؟ وبالتالي، إلى ماذا يؤدي التمرد؟ إلى الفسق أم إلى الكفر؟
ضيفنا الدائم في هذا البرنامج: الباحث الإسلامي والأستاذ في الحوزة العلمية سماحة الشيخ مصطفى محمد مصري العاملي، والذي نرحب به في بداية هذا اللقاء.
المقدم: أهلاً ومرحباً بكم سماحة الشيخ ضيفاً عزيزاً على قناتكم قناة كربلاء الفضائية.
الشيخ: أهلاً بك أخي العزيز، بك وبالمشاهدين الكرام.
المقدم: حياكم الله سماحة الشيخ. سماحة الشيخ، وصل بنا الحديث في الحلقة الماضية إلى البحث في الجانب المشترك بين مضمون الآيات القرآنية الأحد عشر التي ورد فيها الأمر الإلهي بطاعة الله وطاعة الرسول، وأثبتُّم النتيجة الواضحة والصريحة من أنهما متلازمان لا ينفكان أبدًا. بل أكثر من ذلك، قلتم إن محبة الله لعباده لا تتحقق إلا عبر اتباعهم وطاعتهم للرسول صلى الله عليه وآله، وفق ما قاله الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾.
وأشرتم أيضًا إلى جانب خاص لا بد وأن يُبحث في معاني هذه الآيات ليتضح الترابط بينهما جميعًا بما يوصلنا إلى فهم المراد من الآية الكريمة مورد البحث: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.
ولكن سماحة الشيخ، قبل إكمال البحث في الجانب الخاص الذي أشرتم إليه عن معنى الآية الثانية والثلاثين من سورة آل عمران: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾، والذي يربط بين الطاعة والمحبة والكفر، يُطرح سؤال يرتبط بالجانب المشترك بين هذه الآيات: ما معنى طاعة الله وطاعة رسوله، وكيف تتحقق هذه الطاعة؟
معنى الطاعة الحقيقية: التسليم القلبي
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خير رسله وأعز أنبيائه، سيدنا ونبينا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين. السلام عليكم أيها المشاهدون الكرام، السلام عليك أخي الكريم.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياكم الله سماحة الشيخ.
الشيخ: فيما يتعلق بالآية التي أشرتم إليها: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾. في الواقع، هذه الآية نريد أن نبحثها من جانبين: الجانب الأول يرتبط بالعنصر المشترك بما يرتبط بالأمر الإلهي الوارد في هذه الآية مع الآيات الأخرى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ)، والجانب الخاص الذي يرتبط بهذه الآية: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾.
في الواقع، بلحاظ هذه الآية ربطًا بين المعنيين، نلاحظ أنها تُسلِّط الضوء على نتيجة تعتبر حاسمة وقاطعة لكل من يتمرد على طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بحيث ينتقل الوصف وينتقل الحكم من كونه عاصيًا إلى مرحلة الكفر.
- الآية خطاب للمؤمنين: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾.
- ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾: وأشرنا إلى معنى التولي، كيف يكون بمعنى استدبار الوجه وعدم الالتفات إلى مسألة الطاعة.
- ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾: معنى ذلك أن من يتولى ويبتعد عن طاعة الله وطاعة الرسول فإنه يصبح حينئذٍ في صفوف الكافرين.
نفهم من كل هذا أن الطاعة هي التسليم والإنقياد الذاتي التام المطلق لله تعالى ولرسوله.
علامات الإيمان الحقيقي
نلاحظ آية قرآنية كريمة تشير إلى هذا المعنى، وهي تضع مقياساً لصفة الإيمان: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65).
المقدم: ألا يستفاد من هذه الآية المباركة أنها تبيّن علامات الإيمان الحقيقي الواقعي؟
الشيخ: نعم، هذه الآية ترسم علامات الإيمان ضمن ثلاث مراحل (محاور):
- الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وآله: في كل شيء، سواء كان كبيراً أو صغيراً (يحكموك فيما شجر بينهم).
- التسليم القلبي: أن لا يشعر هذا المؤمن بأي انزعاج أو حرج، بحيث لا يكون في نفسه أي معارضة أو شك (لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت). هنا نلاحظ محاكمة لما يجري في النفس.
- التطبيق التام: أن يُطبِّقوا كل تلك الأحكام ويسلِّموا بها تسليماً مطلقاً (ويسلموا تسليماً).
هذه الآية تضع أسسًا لعلامات الإيمان الحقيقي الذي يربط بين طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وطاعة الله تعالى في كل شيء من موارد الحياة.
بطلان الاجتهاد أمام النص النبوي
المقدم: هنا قد يسأل سائل: ألا يمكن أن يجتهد إنسان ما في قضية ما مقابل أمر الرسول أو وصية الرسول صلى الله عليه وآله؟ هل يمكن؟
الشيخ: في الواقع، الآية بحد ذاتها ترسم لنا معلمين هامين:
- معلم العصمة المطلقة: الأمر بالتسليم القلبي والعملي أمام كل أحكام الرسول وأوامره يدل على أن النبي لا يخطئ أبدًا، سواء في أحكامه، أو قضائه، أو تعليماته، بل حتى في الأمور الدنيوية (يحكموك فيما شجر).
- إبطال الاجتهاد مقابل النص: كل اجتهاد مقابل نص ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو في الواقع مخالفة لنص القرآن الكريم، ومخالفة لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه المخالفة تدخل الإنسان في العنوان الأول الذي نتحدث عنه في الآية: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾.
المقدم: من يجتهد مقابل النص، هل يمكن هذا اتباعه؟
الشيخ: لا يمكن بإجماع المسلمين الاجتهاد مقابل النص. ومسألة الإجتهاد مقابل النص هي مسألة لا يمكن أن تكون في إطار الإيمان على إطلاقه.
شاهد من القرآن: قصة سأل سائل بعذاب واقع
الشيخ: الدليل القاطع على ذلك هو قصة نزول سورة المعارج.
المقدم: ما هو شأن نزول هذه الآية ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾؟ وما ربطها بمسألة طاعة الله وطاعة الرسول؟
الشيخ: نذكر ما ورد في بعض التفاسير القديمة، كتفسير فرات الكوفي، عن أبي هريرة وابن عباس، في قصة نزول الآية بعد واقعة غدير خم:
- الواقعة: بعد أن اجتمع المسلمون في غدير خم، صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأثنى على الله ودعا، ثم أخذ بضبع (عضد) علي بن أبي طالب عليه السلام فرفعها وقال: "اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله."
- الاعتراض والتولي: قام أعرابي (قيل الحارث بن النعمان الفهري) من بين الناس وقال: "يا رسول الله، دعوتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله فشهدنا، وأنك رسول الله فصدقنا، وأمرتنا بالصلاة فصلينا وبالصيام فصمنا وبالجهاد فجاهدنا وبالزكاة فأدينا، ولم يقنعك إلا أن أخذت بيد هذا الغلام... فقلت: اللهم من كنت مولاه فهذا علي مولاه... فهذا عن الله أم عنك؟".
- تأكيد النبوة: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "هذا عن الله لا عني." وأعادها الأعرابي مراراً والنبي يؤكد له: "هذا عن ربك لا عني".
- طلب العذاب: قام الأعرابي مسرعاً إلى بعيره وهو يقول: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم."
- نزول الآية: فما استتم الأعرابي الكلمات حتى نزلت عليه نار من السماء فأحرقته. وأنزل الله في عقيب ذلك: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾.
المقدم: معنى ذلك أن اعتباره من الكافرين كان بسبب عدم قبوله ولاية أمير المؤمنين سلام الله عليه؟
الشيخ: نعم. هذا ينقلنا إلى حقيقة أن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي طاعة الله تعالى، وهذا التسليم التام هو جوهر الأمر.
خلاصة: التمرد والكفر
الآيات المؤكدة على التولي:
- ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور: 47).
- ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ... أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا... بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (النور: 48-50).
النتيجة:
مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تُوجب الكفر. فمن يخالف الرسول، ولا يطيع الرسول، ولا يلتزم بما يقوله الرسول، ما أولئك بالمؤمنين.
نفي المحبة الإلهية
في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾:
- التولي يعني الإعراض عن الطاعة والابتعاد عن خط الله ورسوله.
- المحبة من الله هي اللطف والإحسان والإكرام والتفضل.
- التولي يجعل الإنسان يبتعد عن مقومات محبة الله، فتنتفي عنه هذه الصفة (كما تنتفي عن المعتدين، والظالمين، والكافرين، ومن كان خوانًا أثيمًا).
الخلاصة النهائية: مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم توجب الكفر، ولكن نوع الكفر (كفر جحود أم كفر معصية) يحتاج إلى حلقة خاصة إن شاء الله.
المقدم: جزاكم الله خير سماحة الشيخ وحياكم الله. مشاهدونا الكرام، في نهاية اللقاء نشكر سماحة الشيخ مصطفى محمد مصري العاملي، والشكر متواصل إليكم حتى نلتقيكم إن شاء الله في الأسبوع القادم في نفس الموعد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.